الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه
وبعد : فإن الناظر في الشريعة الإسلامية يجدها ـ لشمولها ـ تعالج جميع القضايا ، وتلبي جميع الحاجات . وليس هناك مسألة إلا ولها حكم ، ولا تجد حكمين لمسألة واحدة .
والذي يستقرئ نصوص الشريعة يجد أن الأدلة عامّة ، وخاصة .
فكثير من الواجبات ، وكثير من المحرمات وردت الأدلة بخصوصها .
فالصلاة واجبة ، وقد جاءت أدلة بخصوصها كثيرة كقوله تعالى { وأقيموا الصلاة } ، وقوله جل وعلا { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } .
وكذلك الأمر بالنسبة للزكاة والصيام والحج ، وأداء الأمانة ، وبر الوالدين ، وحفظ العهود .... قال تعالى (كتب عليكم الصيام ) ، (ولله علي الناس حج البيت) ،( وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه) ، (وأوفوا بالعهد )، (أوفوا بالعقود) ، (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )، (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) ...
والاعتداء على أموال الآخرين حرام ، وقد جاءت أدلة بخصوصه كثيرة قال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ...} الآية .
وكقوله سبحانه { ويل للمطففين ، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون } .
والأمر كذلك بالنسبة للزنا والربا وشرب الخمر والعقوق وأذية الناس ، وإساءة الجوار ، والغدر والخيانة وسوء الظن بالمؤمنين وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا ... فهذه كلها وغيرها جاءت أدلة التحريم بخصوصها (ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة) ، (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ، (وأحل الله البيع وحرم الربا) ، (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) ، (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة )، (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم : ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) ، (واجتنبوا قول الزور) .
وهناك أمور واجبة ومندوبة ، وأمور حرام ومكروهة لم يرد نص بخصوصها ، وإنما استفيد حكمها من كليات الشريعة [ أعنى أصولها وقواعدها الكلية ] وعموماتها .
ولا نفاجىء حين لا نجد نص بخصوص الدخان لا في الكتاب العزيز ، ولا في السنة المطهرة ، ولا في أقوال الأئمة المجتهدين أصحاب المذاهب المتبوعة ؛ لأن التدخين لم يكن موجودا ولا معروفا زمن نزول القرآن ولا في الأعصار الفاضلة التي تبعته .
وليس هذا غريبا ، بل هو من قبيل واقعية الشريعة ـ والواقعية من خصائص الشريعة الإسلامية ومفاخرها ـ إذ أن الإسلام لما أنزل في ناس كانوا يألفون ويعتادون أعمالا منها الطيّب النافع ، ومنها الخبيث الضّار سواء كان نفعه أو ضرره يتعلق بالاعتقاد ، أو بالنفس أو بالعرض أو بالمال ، أو بالعقل .
فأقرّ منها الطيّب والنافع ، ونفى وحرّم الخبيث والضارّ . وشرع من الأحكام ـ غير ما ألفوه واعتادوه ـ ما ينسجم ويأتلف ويتفق مع الضرورات الخمس ؛ وهي حفظ الدين ، وحفظ النفس ، وحفظ العقل ، وحفظ النسل والعرض ، وحفظ المال . وهي كليات وأصول اتفقت الشرائع كلها على حفظها .
وإذ لم نجد دليلا خاصا من الكتاب والسنة في التدخين ، فلا نسارع إلى القول بإباحته وحلّه أخذا من قاعدة قال بها جمهور الأصوليين " الأصل في الأشياء الإباحة ".
لأن من شروط هذا الشيء أن لا يتعارض وقواعد الشريعة ومقاصدها .
وإذا نظرنا إلى التدخين من هذه الوجهة ؛ وجدناه يتعارض مع الصحة ـ بشهادة الأطباء وهم أهل اختصاص ـ وهي ضرورية لحفظ النفس .
ونجده كذلك يتعارض مع ضرورة حفظ المال ، والإنسان مستخلف في مال الله ، ومأمور أن يضع هذا المال في ما يعود عليه بالنفع ؛ من غذاء أو شراب أو دواء أو تعليم أو نحوه . والتدخين ليس بغذاء ولا دواء ، ولا يجني المدخن من سيجارته إلا أبخرتها ، أو رمادها الذي تبقيه بين أصابعه ، ليت الأمر يقف هنا ، بل والسموم التي يدخلها إلى جوفه ، فالتدخين لا يسمن ولا يغني من جوع ، وليس هو دواء ، وإنما هو داء بشهادة الأطباء .
قلنا : إن التدخين لم يكن معروفا في العصور الفاضلة ؛ زمن النبوة ، والخلافة الراشدة ، وعصر الأئمة المجتهدين ، أصحاب المذاهب المتبوعة ، فمتى عرف التدخين إذا ؟
لقد ظهر التدخين في القرن السادس عشر الميلادي حين أدخل المكتشفون الأسبان لأمريكا عادة التدخين إلى بلادهم ومنها إلى فرنسا، ثم بقية بلدان العالم.
ومنذ عرف المسلمون التدخين في أواخر القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر ؛ اجتهد الفقهاء في الحكم الشرعي له، ولكنهم اختلفوا، فذهب معظمهم إلى أنه حرام، وذهب آخرون إلي أنه مكروه، وقال غيرهم إنه مباح ، وتوقف في الحكم آخرون.
وانصبّ نظر الفقهاء في تلك الفترة ـ في حكمه ـ على قدر ما نمّي اليهم من معلومات عنه، وكان قصارى ما يفعلون أن يلجؤوا إلى القياس ، ولم يثبت لديهم أن في التدخين ضررا صحيا، فكان نظرهم إلى متعاطيه أكثر من نظرهم إلى المادة التي تدخن. وقد قيل لهم إنه لا ضرر فيه، فاعتبر مشروبا من المشروبات الأخرى المباحة في حد ذاتها. وبالنسبة للمدخن اعتبروه مما تعتريه الأحكام الشرعية الخمسة، ولم تتفق كلمتهم في الحكم عليه .
وممن قال بإباحته مع الكراهة : أبو الحسنات الكمنوي وأصحاب كتب الأشباه ، وعبد الرحمن العمادي ، فقالوا : الأصل الإباحة أو التوقف.
وقال النابلسي: شرب التتن ليس حراما.
وقال الطحطاوي: كرهه شيخنا العماري كراهة تنزيهية.
وممن قال بحرمة تناوله: عبد الباقي الحنفي قال:" الحق حرمتها وتحقيقها مأخوذ من الكتاب الشريف والحديث النبوي والقواعد الشرعية والنصوص المحررة المرعية"، وخلص إلى أنه يجب تعزيز شاربها وبائعها وبائعي آلاتها.
وفتوى عمر ابن عبد الرحمن الحسيني الشافعي. وكذلك أفتى بالحرمة محمدي محمد فتح الله بن علي المغربي، ومحمد بن الصديق الزبيدي الحنفي، والشيخ عامر الشافعي حيث قال: (الدخان المشهور إن أضر في عقل أو بدن فهو حرام، وضرره بين يشهد به الحس وما قرره الأطباء في الدخان بأنواعه ". ويرى الشرنبلالي تحريمه لانتفاء الغذاء والدواء عنه، ويمنع من بيعه وشربه لأنه من الخبائث، وتلزم شاربه الكفارة في رمضان. وقال محمد بن أحمد: يحرم لأنه يورث الأمراض. وفي كتاب مجالس الأبرار: يفطر، وتعاطيه حرام للعبث واللعب واللهو. وفي كتاب التبيان: " الحق حرمته لقوله تعالى (ويحرم عليكم الخبائث) ويجب تعزير شاربه وبائعه .
وقال الشيخ عامر الشافعي: " حرام ويسقط العدالة ".
* ما دام التدخين لم يرد فيه دليل بخصوصه ؛ وجب علينا إذا أن نرجع فيه إلى أهل الاختصاص ، عملا بقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وأهل الذكر : هم أهل الاختصاص ؛ فنرجع إلى العالم أو الفقيه في الفتوى ، ونرجع إلى الطبيب في أمور الطبّ والتداوي ، ونرجع إلى المهندس في أمور المباني وتخطيطها ، ونرجع إلى الكيميائي في التحاليل وأمور الكيمياء ، ونرجع إلى الفيزيائي في أمور الفيزياء ... وهكذا في كل المجالات .
وأهل الاختصاص هنا هم الأطباء فيما يتعلّق بشأن الصحة ، وعلماء الاجتماع فيما يتعلق بالمدخن والبيئة التي من حوله ، وعلماء الاقتصاد في ما يتعلق بإيرادات التدخين إنتاجا وتسويقا وتصديرا ورسوما ضريبية في مقابل ما ينفق من الميزانيات في علاج مرضى التدخين وتوفير الأدوية اللازمة لهم ، ثم يأتي دور علماء الدّين ليكشفوا عن حكمه على ضوء ما ينمّى إليهم من حقائق .
وهذا من تظافر العلوم وخدمتها لبعضها البعض .[u]