بسم الله الرحمن الرحيم
يوم جديد تشابهت بدايته مع باقى الأيام ... فقط بدايته
كالعادة .. أنهض مسرعا من فراشى قاصدا ذلك المزعج ... وأقوم بإغلاقة قبل أن أتفحص عقاربه التى غالبا ما تشير الى السابعة والنصف صباحا ..
- صباح الخير ...
- صباح النور ...
- هل أعد لك الفطور ..
- لا .. يكفينى القليل من الشاى ..
وبعد آداء صلاة الضحى ..
- طاهر .. سيبرد الشاى
- حاضر ..
- طاهر .. ألا أخبرت صديقك أمجد بأن يكتفى بالإتصال على جوالك فى تلك الساعات المبكرة من الصباح رحمة بالأطفال .. فهاتف المنزل له صوت مزعج فى ساعات الفجر ..
أومأت برأسى مبتسما وأنا أقلب فى جوالى عن مكالمة أمجد الخطأ والتى أشار موعدها الى الخامسة فجرا محدثا نفسى ... كم أنت مزعج يا أمجد .. مر عام على شرائك الجوال وما زلت تغرقنى بهذا الكم من الرنات ..
ثم انتبهت الى زوجتى قائلا .. أفعل إن شاء الله ..
طبعت قبلة على جبين الصغيرين قبل أن تسألنى زوجتى سؤالها اليومى المعتاد ..
- ما الذى تحبه اليوم من طعام على الغذاء ...
- سيطيب لى أى طعام تصنعه يديك
- أستودعكم الله ..
- فى رعاية الله
فى تلك اللحظة ... وقبل أن أغادر .. رن جوالى .. فنظرت إلى رقم الطالب الذى أعلن عن صاحبه مُهنَّد ...
- السلام عليكم مهند .. كيف حالك
رد مهند بصوت باكى مختنق ....
- طاهر ... أمجد مات يا طاهر
- نعم ... ماذا قلت
جائنى الصوت منهارا صارخا باكيا هذه المرة ...
أمجد مات ... فى حادث سيارة بالطريق السريع
خارت قواى ... لم تحتمل قدمى جسدى المتثاقل فجأه .. فجلست على أقرب مقعد
- ماذا تقول يا مهند ...
- طاهر ... لا ادرى ماذا أفعل ... أنا بانتظارك
أجبته بصوت ضعيف مبحوح يشبه الفحيح ...
حاضر ... حاضر
تسائلت زوجتى فى لهفه ... طاهر ماذا هناك .. ماالذى حدث ... من كان المتحدث ..
كان صوتها يأتينى من بعيد ... لم أنتبه إليه بادىء الأمر
- طاهر .... ماذا حدث
- أمجد مات ..
- ماذا قلت ..
- أمجد مات .... لن يزعجنا بجواله بعد الآن ... قلتها بصوت مختنق
جلست زوجتى إلى جانبى وهى تقول ... لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم
ساعتها تذكرت ... فقلت .. إنا لله وإنا إليه راجعون ... أستغفر الله العظيم
- طاهر ... أعلم أن أى كلام لن يخفف عنك مصيبتك .. لكن تذكر حديثك إليَّ عن الموت والصبر عند البلاء ... والتسليم لقضاء الله ...
كررت ما قلت ... إنا لله وإنا إليه راجعون ... إنا لله وإنا إليه راجعون
وبدا علىَّ التماسك ...
- يجب أن أبدل ملابسى هذه ... فلن يصلح زيا رسميا مع ما ينتظرنى اليوم
لم أدرى كم مرة خلعت حذائى وارتديته فى نفس اللحظة دون تبديله بآخر ... إلى أن ساعدتنى زوجتى فى تبديل ملابسى ...
غادرت منزلى قاصدا بيت مهند ... لم أعرف كم مضى من الوقت قبل أن أستقل تلك السيارة الأجرة .. التى لم ينتبه قائدها إلى حالة الوجوم التى اعتلت وجهى .. وكم مرة حاول مجاذبتى الحديث ولم يجد تجاوبا ... غير أنه أقلع فجأه عن ثرثرته بعد مشاهدته إحدى القطرات المنحدرة من خلف نظارتى الشمسية ... كانت تلك كأول الغيث ...
لم أستطع إخفاء عبراتى أمام شريط الذكريات الذى أشاهده لأمجد ... مرحه ... جده ... حركاته ... سكناته .. طيبة نفسه وتلقائيته .. وفائه وتفانيه ... حتى غبائه أحيانا
ورغما عنى أمسكت بجوالى أتفحصه ... أسأله فى قسوة ... لماذا لا ترن الآن ... لماذا ...
جائنى الرد واضحا من جانبى ... سيدى .. وصلنا إلى حيث أردت
التقيت بمهند ... مر علينا الوقت بطيئا عصيبا ونحن نحاول إنهاء إجراءات الدفن ... لم أكن أفكر طوال اليوم إلا فى لقائى بأمجد .. كان يلازمنى شعور غريب أنه ما زال حيا رغم إمساكى بتصريح دفنه ..
وقبل حلول الغروب بقليل ... توجهت مع مهند إلى المشرحة لإجراء الغسل ...
لم ألتفت إلى نداءات أهل أمجد ونحن نخترق جموعهم ... ولا إلى نحيبهم المتعالى .. غير أن كلمة لزوجته إخترقت جسدى لتلطم قلبى فى قسوة ... كانت تقول ... هل ستغسِّل صديقك يا طاهر
سألت الله فى نفسى الثبات .. اللهم ثبتنى وأنزل على سكينتك
دلفنا إلى ممر طويل تستقر فى نهايته تلك الغرفة الموحشة التى سألتقى فيها بصاحبى ...
فتح بابها ثم أوصد بعد دخولنا محدثا صوت ارتطام حديدى .. كانت رائحة الموت تفوح فى داخلها ... فكانت مثل مقبرة جماعية .. غير أنه تبدل ترابها بثلاجة كبيرة لها عشرات الأبواب ... ثم امتدت يد العامل ليفتح الباب الذى بداخله جثة أمجد ...
تثاقلت يد الرجل ومرت اللحظات بطيئة طويلة ..
فالتفت حولى لأجد كل من معى متصنمين .. كأنما وقف بنا الزمن لا يتحرك .. تعالت دقات قلبى فلم أسمع غيرها ... ها هو الباب يفتح ... ويجذب من الداخل سرير بعجلات ... كأنما مرت ساعة قبل أن تظهر مقدمته ...
ويعود شريط الذكريات لأشاهده مرة أخرى ... وتتعالى دقات قلبى محدثةً زلزالا بجسدى ..
ثم ....
أمجد ... أطلقتها من أعماقى .. فلم يسمعها غيرى ... يا حبيبى يا أمجد ... سقطت من عينى دمعة عند اقترابى منه تطبع قبله على جبينه ... ودمعة أخرى تحتضنه
أمجد ... أهكذا تركتنا ... ألم نتعاهد على السير صحبة فى دروب الحياة ... ها أنت تخلف وعدك ..
كم مرة أخلفت موعدا كنا ننتظرك فيه ... وعندما تأتى تكون معك حجتك البينه ...
واليوم ... ما حجتك ... لم يمهلك القدر ... سبقك الموت .... أهكذا أنت دائماً لديك الحجة البينة ..
لكنها اليوم أبين يا أمجد
وإذا بمهند لم يتمالك نفسه ... فآثر مغادرة المكان ... فلم يحتمل رؤية صاحبة ممدا ... غارقا فى دمائه ..
وبعد انتهائنا من تغسيل صاحبى ... سلمت عليه وقبلته .. كنت أشعر بأنه حى .. نعم حى .. أنت حى يا أمجد ... حى عند ربك ... ووجدتنى أبتسم فى وجهه مستبشرا قائلاً ... أنت الفائز ورب الكعبة
وبعد أن أدينا صلاة الجنازة ... قمنا بدفن صاحبنا ودعونا الله ان يتقبله عنده فى الشهداء والصالحين ... وتركناه
تركناه وحيدا ... لم يبقى معه أحد
رجع الجميع ولم يبقى إلا عملك يا أمجد
توجهت إلى بيت أبى قرابة العاشرة مساءا ... وما أن رأتنى أمى حتى عمتنى بحنانها ... وبادرنى أبى معزياً .. البقاء لله يا بنى ...